### **رفيق مخلص وذاكرة حديدية: كيف تحمي الحيوانات الأليفة أدمغتنا من شيخوخة الزمن؟**
في عالم تتسارع فيه وتيرة الحياة وتتزايد معه
ضغوطها، يبحث الإنسان دائمًا عن ملاذات للأمان ومصادر للراحة النفسية. لطالما كانت
الحيوانات الأليفة، بكلابها الوفية وقططها الحنونة، تمثل هذا الملاذ، فهي تقدم
رفقة صامتة وحبًا غير مشروط. لكن ماذا لو كان هذا الرابط العميق يتجاوز حدود الدعم
العاطفي ليصبح درعًا حقيقيًا يقي أدمغتنا من تآكل الزمن؟ هذا ما تكشفه دراسة علمية
حديثة ومهمة، لتؤكد أن اقتناء حيوان أليف ليس مجرد متعة، بل هو استثمار استراتيجي
في صحتنا المعرفية على المدى الطويل.
![]() |
### **رفيق مخلص وذاكرة حديدية: كيف تحمي الحيوانات الأليفة أدمغتنا من شيخوخة الزمن؟** |
- نشرت مجلة **"Scientific Reports"** المرموقة دراسة شاملة، قادتها الباحثة أدريانا
- روستيكوفا من جامعة جنيف، ألقت ضوءًا جديدًا على العلاقة بين ملكية الحيوانات الأليفة والشيخوخة
- الصحية للدماغ. استندت الدراسة إلى تحليل بيانات ضخمة تم جمعها على مدار 18 عامًا من "مسح
- الصحة والتقاعد والشيخوخة في أوروبا" (SHARE)، وهو مشروع بحثي يتابع حياة آلاف الأفراد
- فوق سن الخمسين. لم تكن النتائج مجرد تأكيد لما هو شائع، بل قدمت تفاصيل دقيقة ومذهلة حول
- كيفية تأثير أنواع مختلفة من الحيوانات على وظائف دماغية محددة.
**نتائج تفصيلية الكلاب للذاكرة والقطط للطلاقة**
كشفت الدراسة أن الأفراد الذين يمتلكون حيوانات
أليفة، وتحديدًا الكلاب والقطط، أظهروا معدلًا أبطأ بكثير في تدهور وظائفهم
المعرفية مقارنة بأقرانهم الذين لا يمتلكون حيوانات. لكن التفاصيل هي ما جعلت هذه
الدراسة فريدة من نوعها. لم تكن الفائدة عامة، بل كانت متخصصة بشكل لافت:
1. **أصحاب
الكلاب ودرع الذاكرة:** أظهر مربو الكلاب قدرة فائقة على الحفاظ على قوة ذاكرتهم
اللفظية (Verbal Memory) والذاكرة العاملة
(Working Memory). الذاكرة اللفظية هي قدرتنا على تذكر
الكلمات والمعلومات التي نسمعها أو نقرأها، بينما الذاكرة العاملة هي المسؤولة عن
الاحتفاظ بالمعلومات ومعالجتها لفترة قصيرة لاتخاذ القرارات وحل المشكلات. بعبارة
أخرى، يبدو أن الرفقة اليومية مع كلب تساعد في إبقاء هذه الدوائر الدماغية الحيوية
نشطة وقوية في مواجهة التقدم في العمر.
2. **أصحاب
القطط وحصن الطلاقة اللفظية:** على الجانب الآخر، تميز مربو القطط بثبات ملحوظ في "الطلاقة
اللفظية" (Verbal Fluency).
هذه الوظيفة المعرفية تقيس سرعة وسهولة استدعاء الكلمات
من الذاكرة، مثل القدرة على تسمية أكبر عدد ممكن من الحيوانات في دقيقة واحدة. يشير
الحفاظ على هذه المهارة إلى صحة مناطق الدماغ المسؤولة عن اللغة والتنظيم التنفيذي.
أما بالنسبة للحيوانات الأخرى، مثل الطيور والأسماك، فلم تسجل الدراسة أي تأثير وقائي يُذكر على الوظائف المعرفية. وهذا يقودنا إلى السؤال الأهم: لماذا هذا التباين؟ وما هي الآليات الخفية التي تجعل من الكلاب والقطط حراسًا لأدمغتنا؟
**فك شيفرة التأثير لماذا الكلاب والقطط تحديدًا؟**
تكمن الإجابة في طبيعة العلاقة التفاعلية التي
نبنيها مع هذه الكائنات. فالفائدة لا تأتي من مجرد وجود كائن حي في المنزل، بل من
جودة وعمق التفاعل اليومي.
* **الكلاب:
محفزات للحركة والتواصل الاجتماعي**
تفرض
الكلاب على أصحابها نمط حياة أكثر نشاطًا. فالحاجة إلى تمشيتها يوميًا تضمن جرعة
منتظمة من النشاط البدني، والذي أثبتت آلاف الدراسات أنه أحد أهم العوامل للحفاظ
على صحة الدماغ. المشي يزيد من تدفق الدم والأكسجين إلى الدماغ، ويحفز إنتاج عامل
التغذية العصبية المستمد من الدماغ
(BDNF)، وهو
بروتين أساسي لنمو الخلايا العصبية وبقائها.
- إضافة إلى ذلك، تلعب الكلاب دورًا اجتماعيًا هائلاً. فهي تجبر أصحابها على الخروج من المنزل
- والتفاعل مع العالم، سواء مع أصحاب الكلاب الآخرين في الحديقة أو مع الجيران. هذا التفاعل
- الاجتماعي يقي من الوحدة والعزلة، وهما من أكبر عوامل الخطر المعروفة للإصابة بالخرف
- والتدهور المعرفي.
على
المستوى العصبي، أظهرت أبحاث سابقة أن التفاعل مع الكلاب يزيد من نشاط **قشرة الفص
الجبهي (Prefrontal Cortex)**، وهي منطقة الدماغ
المسؤولة عن التخطيط، واتخاذ القرار، والتركيز. هذا التحفيز المستمر، جنبًا إلى
جنب مع إفراز هرمون الأوكسيتوسين "هرمون الحب" الذي يعزز الترابط ويقلل
من هرمون التوتر "الكورتيزول"، يخلق بيئة دماغية مثالية لمقاومة
الشيخوخة.
* **القطط:
منبهات ذهنية بطبيعتها المتقلبة**
قد
لا تتطلب القطط المشي اليومي، لكنها تقدم نوعًا مختلفًا من التحفيز الذهني. طبيعة
القطط المتقلبة والمستقلة تجعل التفاعل معها تمرينًا عقليًا بحد ذاته. يحتاج صاحب
القطة إلى أن يكون دائمًا في حالة تأهب لتفسير لغة جسدها الدقيقة، وفهم حالتها
المزاجية، والتنبؤ بتصرفاتها. هذا التحدي المستمر ينشط **التلفيف الجبهي السفلي (Inferior Frontal Gyrus)**، وهي منطقة مرتبطة بفهم الإشارات
الاجتماعية المعقدة ومعالجة اللغة.
- كما أن الوجود الهادئ والمطمئن للقطة، وصوت خرخرتها الذي ثبت أن له ترددات علاجية تساعد
- على خفض ضغط الدم ومستويات التوتر، يوفر بيئة منزلية منخفضة الإجهاد. الإجهاد المزمن هو عدو
- الدماغ الأول، حيث يساهم في التهاب الخلايا العصبية وضمور الحُصين (Hippocampus)، مركز
- الذاكرة في الدماغ. من خلال تخفيف هذا الإجهاد، تساهم القطط بشكل غير مباشر في حماية الذاكرة
- والوظائف التنفيذية.
أما الأسماك والطيور، فالعلاقة معها أقل تفاعلية.
الأسماك، كما أشارت روستيكوفا، قصيرة العمر غالبًا، مما لا يسمح بنشوء رابط عاطفي
عميق وطويل الأمد. أما الطيور، فعلى الرغم من تفاعلها، إلا أن الضوضاء التي قد
تحدثها يمكن أن تضعف جودة النوم، وهو عامل حيوي آخر لصحة الدماغ، حيث يقوم الدماغ
أثناء النوم العميق بتنظيف نفسه من البروتينات السامة التي تتراكم وتؤدي إلى أمراض
مثل الزهايمر.
**الصورة الأكبر نحو طب وقائي أكثر إنسانية**
تأتي هذه النتائج في وقت حاسم تواجه فيه أنظمة
الرعاية الصحية العالمية، مثل هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS) في
بريطانيا، تحديًا هائلاً يتمثل في شيخوخة السكان والارتفاع المخيف في حالات الخرف.
لعقود، كان التركيز منصبًا على الحلول الدوائية والجراحية. لكن هذه الدراسة،
وغيرها الكثير، تسلط الضوء على قوة "الوصفات الطبية غير التقليدية" أو
ما يُعرف بالتدخلات القائمة على نمط الحياة.
- يقول أندرو سكوت، مؤلف كتاب "ضرورة طول العمر" (The Longevity Imperative)، إننا
- نميل إلى حصر مفهوم الصحة في الأطباء والمستشفيات، ولكن مع تقدمنا في العمر، يجب أن نعيد
- التفكير في الوقاية بطرق ممتعة وذات معنى. إن وجود حيوان أليف ليس مجرد مسؤولية، بل هو
- مصدر يومي للبهجة، والنشاط، والتفاعل، والغرض. إنه يجبرنا على العيش في الحاضر، ويوفر لنا
- دافعًا للاستيقاظ كل صباح.
إن الفوائد تتجاوز الدماغ لتشمل الصحة العامة: خفض
ضغط الدم، وتقليل خطر الإصابة بأمراض القلب، ومكافحة الاكتئاب والقلق. كل هذه
العوامل مترابطة وتصب في النهاية في صحة الدماغ.
** استثمار في الرفقة.. وحصاد في الذاكرة**
في نهاية المطاف، تؤكد هذه الدراسة العلمية ما
شعر به الملايين من محبي الحيوانات بحدسهم: أن الرابط الذي يجمعنا برفاقنا من
الحيوانات هو ينبوع للصحة العقلية والجسدية. لم يعد الأمر مجرد حكاية عاطفية، بل
حقيقة علمية راسخة. إن القرار باقتناء كلب أو قطة قد يكون أحد أهم القرارات الصحية
التي نتخذها مع دخولنا النصف الثاني من العمر.
الختام
ففي المرة القادمة التي تنظر فيها إلى كلبك وهو
يهز ذيله بحماس عند عودتك، أو تستمع فيها إلى خرخرة قطتك وهي تستقر في حضنك، تذكر
أنك لا تتلقى الحب والرفقة فحسب، بل تشارك في طقس يومي فعال يحمي ذاكرتك ويحافظ
على حدة عقلك لسنوات قادمة. قد يكون مفتاح الحفاظ على دماغ شاب يكمن في قلب ينبض
بالوفاء ومخالب ناعمة.